معرفة الله

طرق معرفة الله
لقد كُتبت كتب كثيرة من أقدم الأزمنة حتى اليوم وجرت بحوث ومساجلات عديدة بين العلماء والمفكّرين حول معرفة الله. كلّ فريق من هؤلاء اختار للوصول إلى هذه الحقيقة طريقاً خاصّاً غير أنّ أفضل الطرق وأسرعها في إيصالنا إلى مبدأ عالم الوجود طريقان اثنان:
1 طريق من الداخل: الفطرة.
2 طريق من الخارج: النظام الكوني.

نبدأ أوّلاً بالمرور في أعماقنا لكي نسمع نداء التوحيد من داخلنا، وفي المرحلة التالية نسيح في عالم الخليقة الشاسع لنطالع آيات الله في سيماء كل الموجودات وفي قلب كلّ الذرّات.

الفطرة الإنسانية

إنّ أيّ شخص، مهما يكن عنصره وطبقته، إذا تُرك وشأنه، دون تعليم أو إرشاد، ودون أن يسمع آراء كلا المؤمنين والملحدين، فإنّه بذاته يتّجه نحو قوّة قادرة قاهرة ترتفع فوق المادّة وتحكّم الكون بأسره.

إنّ هذا الإنسان يحسّ أنّ في أعماق قلبه وزوايا نفسه نداءً لطيفاً مفعماً بالمحبّة والرحمة، ولكنّه في الوقت نفسه مكين وثابت، يدعوه إلى المبدأ العظيم والقادر العليم الذي ندعوه: الله. ذلك هو نداء الفطرة الطاهرة!

ولكن قد ينجرف هذا الشخص مع التيار المادّي وحركة الحياة اليومية الزاخرة بالبهرجة والزينة، فينشغل بها وقتاً عن سماع ذلك النداء. ولكنّه عندما يجد نفسه تواجه الشدائد والمشكلات والمحن، وعندما تُهاجمه الحوادث الطبيعية المرعبة، كالسيول والزلازل والفيضانات ولحظات القلق في طائرة تتلاعب بها العواصف، نعم عندما تقصر يده عن الوصول إلى عون مادّي ولا يجد ملجأ يلوذ به، يقوى هذا النداء في داخله ويحسّ أنّ في كيانه قوّة تجتذبه نحوها، قوة هي فوق كل القوى، وقدرة غامضة يسهل عليها حلّ جميع المشكلات بيسر وبساطة.

قليل جداً من الناس من لا يتّجه هذا الاتّجاه عند مواجهة الأزمات والشدائد، ولا يتذكّر الله دون اختيار. هذا الأمر هو الذي يدلّنا على مدى قربنا منه، ومدى قربه منّا، بل إنّه في أرواحنا وضمائرنا. إنّ نداء الفطرة موجود دائماً في وجدان الإنسان، ولكنّه يقوى في هذه اللحظات.

فإذا رجعت إلى أعماق نفسك وجدت أنّ هناك نوراً يتلألأ في باطنك ويدعوك إلى الله. ولعلك قد صادفت في حياتك بعض الأزمات الشديدة والطرق المسدودة بحيث إنّك يئست من العثور على الحلّ والعلاج. ولا شكّ أنّك في مثل تلك الحالات قد خطرت لك حقيقة وجود قوّة قادرة في عالم الوجود تستطيع أن تحلّ مشكلتك بكلّ سهولة.

في تلك اللحظات تشعر أنّك قد احتواك أمل يُمازجه في داخلك حبّ ذلك المبدأ العظيم، وأنّ ذلك الأمل قد أزاح عن قلبك كلّ سُحب اليأس السوداء القاتمة. نعم، هذا هو أقصر الطرق التي تبدأ من داخل المرء للوصول إلى الله، بارىء عالم الوجود القدير.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ1.

النظام الكوني
بنظرة عابرة إلى هذا العالم الذي نعيش فيه، نُدرك أنّ عالم الوجود هذا ليس فيه اضطراب ولا ارتباك، بل إنّ لجميع مظاهر الحياة خطّاً معيناً تسير عليه، فهي أشبه بجيش ضخم مقسّم إلى وحدات منظمة وتتحرّك جميعاً نحو هدف معين. والنقاط التالية تُزيل كل غموض عن هذا الموضوع:

1 لظهور كلّ كائن ولبقائه حيّاً في هذا العالم لا بدّ من تضافر عدد من الظروف والقوانين الخاصّة لبلوغ ذلك الهدف. فمثلاً، لكي تظهر شجرة إلى عالم الوجود، لا بدّ من توفّر الأرض، والماء، والهواء المناسب، والحرارة اللازمة، لكي نزرع البذرة، فتتغذّى، وتتنفّس، وتخضرّ وتنمو. فإذا لم تتوفّر هذه الأمور استحال ظهور النبتة ونموها إلى شجرة. وإنّ تهيئة هذه الظروف والشروط تتطلّب عقلاً ومعرفة.

2 إنّ لكلّ كائن خصائص يختصّ بها دون غيره. فإنّ لكلّ من الماء والنار خصائص لا تنفصل عنها وتتبع قوانين ثابتة.

3 جميع أعضاء الكائن الحي تتعاون فيما بينها، فجسم الإنسان تعمل أعضاؤه، بوعي أو بغير وعي، بانسجام تامّ بعضها مع بعض. فإذا ما واجه الجسم خطراً تأهّبت الأعضاء للدفاع. إنّ هذا الترابط والانسجام في العمل دليل آخر على وجود النظام في عالم الوجود.

4- إنّ نظرة واحدة إلى العالم تكشف لنا أنّ الترابط والانسجام والتعاون في العمل ليست مقتصرة على أعضاء الجسم الواحد، بل إنّ مختلف كائنات العالم تتعاون فيما بينها، فلبقاء الكائنات تطلع الشمس، وينزل المطر، وتهبّ الرياح، وتتضافر معها الأرض ومنابعها لهذا الهدف. وهذا دليل وجود نظام معيّن يشمل عالم الوجود كلّه.

العلاقة بين “العقل” و “النظام”
كلّ امرىء لا بدّ أن يتعرّف في نفسه بأنّ النظام حيثما ظهر كان دليلاً على أنّ وراءه عقلاً مفكّراً وتخطيطاً وهدفاً. فحيثما شاهد الإنسان نظاماً ثابتاً وقوانين معيّنة أدرك أنّ هناك وراء ذلك مصدراً للعلم والقدرة، وهو في هذا الإدراك الوجداني ليس محتاجاً إلى الاستدلال حاجة كبيرة.

إنّه يعرف أن إنساناً أمّياً أعمى ليس قادراً على أن يضرب على الآلة الكاتبة مقالة اجتماعية جيدة أو نقداً أدبياً، مثلاً، أو أنّ طفلاً في الثانية من عمره لا يمكن له بإمرار قلمه على الورق عشوائياً أن يرسم لوحة جميلة قيّمة. إنّنا إذا طالعنا إنشاءً جيداً أو مقالة رائعة أدركنا فوراً أنّ كاتبها إنسان مثقف متميز بالذكاء والعقل. كذلك إذا شاهدنا في متحف لوحة جميلة جذابة لا نشكّ لحظة في أنّ الذي رسمها كان فنّاناً ماهراً، على الرغم من أنّنا لم نر ذلك الفنّان بشخصه.

بناءً على ذلك حيثما رأينا جهازاً منظّماً علمنا أنّ معه عقلاً وذكاءً. وكلّما كان ذلك الجهاز أكبر وأدقّ وأروع كان العقل والعلم اللذين أوجداه أكبر وأعظم كذلك.

وإنّه لمن حسن الحظّ أن نجد أنّ تقدّم العلوم الطبيعة والكشف عن أسرار عالم الطبيعة وعجائبه ودقائق خلق الإنسان والحيوان والنبات، وبناء الخليّة والذرّة العجيب، ونظام المنظومات الشمسية والنجوم المحيّر للعقول كلّها قد فتحت أبواب معرفة الله أمامنا بحيث نستطيع أن نقول بكل جرأة وثقة بأنّ جميع كتب العلوم الطبيعية، هي كتب في التوحيد ومعرفة الله، وأنّها تُلقي علينا دروساً في عظمة الله الخالق، وذلك لأنّ هذه الكتب تزيح الستار عن نظام الخلق المدهش في هذا العالم، وتدلّنا على مدى عظمة خالق هذا الكون وقدرته.

يقول القرآن الكريم: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ2.

هوامش

1- سورة العنكبوت، الآية 65.
2- سورة فصّلت، الآية 533.

Add comment

روابط

التقويم الهجري

شعبان 1438
نيسان - أيّار 2017
M D M D F S S
الإثْنَين الثَلاثاء الأربَعاء الخَميس الجُمُعة السَبْت الأحَد
« رجب اليوم  رمضان »
 

128

229

330

41/5

52

63

74

85

96

107

118

129

1310

1411
1512

1613

1714
1815

1916

2017

2118
2219

2320
2421

2522

2623
2724

2825

2926

3027