برّ الوالدين
كما يجب السعي في تهذيب النفس من الخلق السيّئ، والذي قد يُعيق الإنسان من الوصول إلى كماله، يجب السعي للتحلّي بالأخلاق الحسنة، الّتي تُساعد الإنسان على القرب من الله ـ عزّ وجلّ ـ وعلى نيل الكمالات المعنويّة.
قال الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾1 .
بين البر ّ والعقوق
يُعتبر عقوق الوالدين من المعاصي الكبيرة الّتي تَوَعَّدَ الله عليها بعذاب النار، حيث جاء في الحديث عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: “مَنْ نَظَر إلى أَبَوَيْهِ نَظَرَ ماقتٍ وَهُما ظالمانِ لَهُ لَمْ يَقْبَلِ الله لَهُ صَلاةً”2.
ولذلك نجد أنّ الإسلام قد تشّدد في هذه الناحية وجعل أدنى العقوق للوالدين أن يقول لهما أفٍّ، يقول الله عزَّ وجلّ: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾3 .
عن الإمام الصادق عليه السلام: “أدنى العقوقِ كلمةُ أُفٍّ، وَلو عَلِمَ الله ـ عزّ وجلّ ـَ شيئاً أهونَ مِنْهُ لَنَهى عَنْهُ”4.
ولشدَّة حساسيّة التعامل مع الوالدين جعل الإسلام من العقوق أن يتسبّب الإنسان لوالديه بالسبّ والشتم.
ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “مِنَ الْكَبائِرِ شَتْمُ الرّجُلِ والدَيْهِ، يَسُبُّ الرَّجُلُ أبَ الرَّجُلِ فَيَسُبَّ أَباهُ وَيَسُبَّ أُمَّهُ”5.
لماذا البرُّ بالوالدين؟
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وأنزله إلى دار الدنيا، عبر وعاء خاصّ، يتناسب مع طبيعة تركيبته البدنيّة والروحيّة والعاطفيّة, فالإنسان حتّى يأتي إلى عالم الدنيا، لا بدّ وأن يمرّ في بطن تحميه وتغذّيه بطريقة خاصّة جدّاً، وإلّا فإنّه سيفقد مبرّر وجوده، فلا يدخل إلى دار الدنيا.
لقد بدأت مسيرة الإنسان بنطفة، ثمَّ صار مضغة، ثمّ علقة، ثمّ عظاماً، ثمّ كسى الله تعالى العظام لحماً، ثمّ أنشأه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. وكلُّ هذه المراحل تمرّ في بطن الأمّ وهي تحمله في أحشائها وتتحمّل التعب والمشقّة من أجل أن لا يتضرّر حملها. وبعد ذلك أجرى الله له غذاءً خاصّاً من صدرها يتناسب مع ضعفه وطبيعته، وإلّا فالموت قدره المحتوم.
أمّا الأب، فهو ربّ الأسرة الّذي يكفل لأبنائه توفير وسائل العيش لهم، وتعليمهم وتأديبهم، ويكفي ما يعيشه من قلق عليهم.
حقوق الوالدين
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: “حَقُّ الله الأكبرُ عليكَ أَنْ تَعْبُدَهُ ولا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً فإِذا فعلْتَ ذلكَ بإخلاصٍ جَعَلَ لَكَ على نَفْسِه أَنْ يَكْفِيكَ أَمْرَ الدُّنيا والآخِرَةِ.
قال: وأمّا حَقُّ أمِّكَ أَنْ تعلمَ أَنّها حملَتْكَ حَيْثُ لا يحتملُ أحدٌ أحداً وأَعطَتْكَ مِنْ ثَمَرَةِ قلبِها ما لا يُعْطي أحدٌ أحداً، وَوَقَتْكَ بجميعِ جوارِحِها، وَلَمْ تُبالِ أَنْ تَجوعَ وتُطْعِمَكَ، وتعطشَ وتسقيَكَ، وتعرى وتكسُوَكَ، وتضحي وتظلُّكُ، وتهجرُ النومَ لأجلِكَ، ووَقَتْكَ الحرَّ والبردَ لِتَكونَ لها، فَإِنَّكَ لا تطيقُ شكرَها إَلاَّ بعونِ الله وَتَوْفيقِهِ.
وأمَّا حقُُّ أبيكَ فَأَنْ تَعَلَمْ أَنَّهُ أَصْلُكَ، فَإِنَّكَ لولاهُ لَمْ تكُنْ فَمَهما رَأيْتَ مِن نَفْسِكَ ما يُعْجِبُكَ فاْعلَمْ أَنَّ أَباكَ أَصْلُ النِّعمةِ فيهِ فَاحْمدِ الله واشكرهُ على قَدْرِ ذلِكَ، ولا قُوَّةَ إَلاَّ بالله”6.
العلاقات العاطفيّة ودورها
من نِعَم الله العظيمة على الإنسان أن جعل له سلسلة من العلاقات الاجتماعيّة، تضمن له استمراريّة حياته.
فالإنسان حينما يولد، ويدخل إلى دار الدنيا، يكون ضعيفاً فقيراً محتاجاً، لا يستطيع أن يستقلّ بفعل أيّ شيء، فهو في كلّ احتياجاته من مأكل ومشرب وملبس، يحتاج إلى أبويه كي يوفِّرا له أسباب الراحة والدعة، ويؤمنّا له أسباب الحياة. وقد جعل الله تبارك وتعالى عاطفة خاصّة من والديه تجاهه، لا نجدها عند غيرهما على الإطلاق.
وكذلك هو حاله عندما يُرَدُّ إلى أرذل العمر، والضعف بعد القوّة والشباب والصحّة والعافية. فهو بحاجة إلى راع ٍ ومعين, لأنّه يعود إلى الضعف والوهن، حيث سُلبَتْ منه القدرة. وهنا، يأتي دور الأبناء ليردّوا ولو جزءاً من حقّ الأبوين عليهما. وقد زرع الله في نفوس الأبناء عاطفة خاصّة تجاه الآباء، بها يحبّ الابن والديه، ولا يتخلّى عنهما، حتّى في أصعب الظروف، إلّا في الحالات النادرة الّتي يتخلّى فيها الإنسان عن إنسانيّته ومبادئه، وقيمه ودينه، حيث يعيش حالة انحلال الأسرة من البداية كما يحصل في الغرب، حيث تضطرّ الدولة إلى إنشاء مراكز الحضانة والتربية في مرحلة الطفولة، وكذلك مراكز العجزة في مرحلة الشيخوخة.
قصـّة من حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
روي أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يشكو أباه أنّه أخذ منه ماله، فطلب منه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يأتيَ بأبيه. فنزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “إنّ الله عزّ وجلّ يُقْرِئُكَ السلام، ويقول لك: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه”،فلمّا جاء الشيخ، قال له النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “ما بالُ ابنِكِ يَشْكوكَ تُريدُ أَنْ تَأْخُذَ مَاَلهُ؟”
قال: سَلْهُ يا رسول الله هل أنفقته إلّا على إحدى عمّاته أو خالاته أو على نفسي؟
فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “دَعْنا مِنْ هذا، أَخْبِرني عَنْ شَيءٍ قُلْتَهُ في نَفْسِكَ ما سَمِعَتْهُ أُذُناكَ”.
فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما يزال الله يزيدُنا بك يقينا، لقد قلْتُ في نفسي شيئاً، ما سمِعَتْه أُذُناي.
فقال: “قُلْ وأَنا أَسْمَعُ”.
فقال: قلت:
غَذَوْتُكَ مولوداً وعِنْتُكَ يافعاً | تَعِلُّ بما أَجْني عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ |
إذا لَيْلةٌ ضافَتْكَ بالسُّقمِ لَمْ أَبِتْ | لِسُقْمِكَ إِلَّا ساهِراً تَمَلْمَلُ |
كَأَنِّي أَنا المَطْروقُ دونَك بالَّذي | طُرِقْتَ به دوني فَعَيْنيَ تَهْمُلُ |
تَخَافُ الردى نفسي عَلَيْكَ وإِنَّها | لَتعلمُ أنَّ الموتَ وقتٌ مُؤَجَّلُ |
فلمَّا بلغْتَ السِّنَّ والغايةَ التي | إِليها مَدى ما كُنْتُ فيكَ أُؤَمِّلُ |
جعلتَ جزائي غِلْظَةً وفَظاظةً | كَأَنَّكَ أَنْتَ المُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ |
فلَيْتَك إذْ لم تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتي | فعلْتَ كَما الجارُ المجاوِرُ يَفْعَلُ |
تراهُ مُعِدّاً لِلْخِلافِ كَأَنَّهُ | بِرَدٍّ عَلى أَهْلِ الصّوابِ مُوَكَّلُ |
ثمار برّ الوالدين
لبرّ الوالدين آثار طيّبة عديدة منها:7
1- التوفيق للتوبة: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: “يا رسول الله، لم أترك شيئاً من القبيح إلّا وقد فعلته، فهل لي من توبة؟ فقال له: هلْ بقيَ من والدَيْكَ أحدٌ؟ فقال: نعم أبي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اذهبْ وابْرُرْهُ، فلمّا ولّى، قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: لو كانَت أمَّه”8.
2- طول العمر وزيادة الرزق: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “من سرَّهُ أنْ يُمدَّ له في عُمُرِهِ ويُبْسطَ لهُ في رِزْقٍ فَلْيَصِلْ أَبَوَيْهِ فَإنَّ صِلَتَهُما مِنْ طاعَةِ الله”9.
3- رضا الله في رضاء الوالدين: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يا عليُّ، رضى الله كلُّه في رضاءِ الوالدينِ، وسخطُ الله في سخطِهِما”10. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “يُقال للعاقّ: اعملْ ما شِئْتَ فَإِنِّي لا أَغْفِرُ لكَ، ويقال للبارِّ: اعْمَلْ ما شِئْتَ فإِنِّي سأَغْفِرُ لَكَ”11. (أي اعمل ما شئت من الخير).
4- تخفيف سكرات الموت: عن الإمام الصادق عليه السلام: “مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُخَفِّفَ اللهُ ـ عزّ وجلّ ـَ عنه سكراتِ الموتِ، فليكُنْ لقرابَتِه وصولاً، وبوالديه بارّاً، فإذا كانَ كذلك هوّنَ اللهُ عليهِ سكراتِ الموتِ، ولم يصبح في حياتهِ فَقْرٌ أَبَداً”12.
هوامش
1- سورة لقمان، الآية 14.
2- الشيخ الكليني، الكافي،ج2، ص349.
3- سورة الإسراء، الآية 23.
4- الشيخ الكليني، الكافي،ج2، ص34.
5- الريشهري، ميزان الحكمة، ج 4 ص 3677.
6- من رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام.
7- شرح رسالة الحقوق، ص 569.
8- ابن فهد الحلّي، عدّة الداعي، ص76.
9- م. س.
10- السبزواري، معارج اليقين، ص214.
11- م. ن.
12- الصدوق، الأمالي، ص476.
Add comment